top of page
Search
Writer's pictureYoussef Rakha

إنه يأكل الزجاج

مقطع جديد من «البار» بمناسبة صدورها





إنه يأكل الزجاج. هل رأيتَ ذلك حقاً؟ يمسك الكأس من رقبته ويقضم الحرف المستدير حتى يتكسّر الزجاج في فمه ولا نقطة دم. يبلعه ولا يَجرح معدته. صوت الكُسارة تُهشّمها أسنانه كأنها نُقلٌ مُحمّص. هل رأيت وسمعتَ أم أنه فقط حكى لك؟ أم أنه صوت في رأسك؟

بعد أول لقاءاته الواعية بالملائكة بات قادراً على أكل الزجاج. ولم تكن قدرة خارقة كهذه لِتُفرحه بعد ما فعلوه به. لقد تمسّك بها فقط لأنها تثبت ما جرى له. لكنه لن يعلن عنها إلا لك أنت، بعد عقود من إدراكها. وما قيمة الإثبات إذا بقي سراً؟

في البار تُتابع يده وهي ترفع الكأس إلى فمه والمَشَاهد تومض في رأسك. ستنتبه إلى أغنية جزائرية على الغيتار. ولِمَ لا تُخلصين النية، هكذا تقول، أيتها العذراء التي لا يُعَوَّل عليها؟ أمجد صامت يتطلع إلى الحائط ويهُز رأسه بخفة على نغمات الأغنية. يشرَب من الكأس ويتركها. لا يخطر له أنك تراه يزدرد زجاجها كالخبز الناشف.

الآن تراه يرتجف في مكان آخر. تراه بوضوح مع أنك لم تكن معه وقتها، وتتبيّن هُويته مع أنه لا يشبه صورته التي تعرفها. إنه صبي نحيف بشعر أسود كالفحم. ليس مصفَّفَاً بعناية. يجلس على حافة سرير نُحاسي وجسده كله مشدود في مواجهة شباك. في الوضع الطبيعي، هذا الشباك يؤطّر شجرة مشمش وشارع ضيق وصوت أمواج. لكنّ ما يراه أمجد في إطاره شيء آخر.

إنه وجه. وجه فقط. وجه محاط بريش أبيض. لكنك كلما دقّقت في ملامحه تلاشت حتى لا يعود له شكل: مجرد سطح بيضاوي مُصمَت. ليس وجه إنسان.

الآن تحصل أشياء. أمجد لا يتذكّر الأشياء نفسها لكنّه يعرف أنها ستحصل. ليست هذه أول مرة يرى فيها الوجه تمهيداً لحصولها. العينان تحدقان فيه بشدة. بيضتان سوداوان تبرقان. بيضتان كحجر السَبَج. هائلتان. ولهما قوة جذب تُجبره على النظر إليهما. حالما يستسلم لتلك القوة، يأخذ جذعه النحيل في الانتفاض بسرعة مُطّردة. إلى أن تتحول قوة الجذب إلى طاقة مادية قادرة على تحريكه.

أمجد لا يرى شيئاً ولا يشعر بشيء لكنها ترفعه عن حرف السرير، هذه الطاقة. ترفعه وتسحبه إلى الوجه الذي ينتظره. وحين يبلغ إطار الشباك يتبين أن الريش الأبيض ليس سوى الجناحين المفرودين للمخلوق الذي يجذبه إليه، يغطيان مساحة الشباك.

الآن تحطّ الملائكة. ليس عبثاً أن يكون أمجد اختار لهم هذا الاسم. إنهم أشبه بفراشات بيضاء عملاقة. الجسد المحشور وسط الجناحين له ذراعان ورِجلان، لكنْ وسْط الجناحين لا يكاد يبين منه إلا قرنا استشعار سوداوان أشبه بكرباجين مشدودين إلى أعلى.

أمجد سوف يتبع العينين مرغماً إلى حيث اجتمع موكبٌ كامل منهم في سماء لونها أزرق داكن تنزعه بقعة حمراء. بياضهم باهر والألوان من ورائه. يشبهون طيوراً أو آلهة. وأمجد سيظل طائراً وسطهم إلى أن يلج المكان الذي تحصل فيه أشياء.

كان شاباً صغيراً يوم رَوّعَهُ تذكّر هذا اللقاء. واشتد روعه لما فهم أن هذا ما يحصل معه طول حياته. كان يجب أن يُسَرّ بأنه هذه المرة تذكّر. لكنه أراد أن ينسى ما فعلوه به لما أناموه على طاولة كالصينية. لما أناموه مشلولاً ورجلاه مفتوحتان ثم طووْا أجنحتهم خلف ظهورهم وأخرجوا المُعدّات. أراد أن ينسى فجاء من فوره إلى طاولة البار. وبينما الموسيقى تشتغل أخذ يشرَب في صمت.

ليلتها ما إن فرغت الكأس حتى اشتهاها. ليس أن تمتلئ فيُفرغها. يشتهي زجاجَها في بطنه. ولما اختبر النظريّة لاحقاً وَجَد أنّ الزجاج لا يؤذيه. هل حدث شيء من ذلك فعلاً في الحقيقة والواقع؟

لكنك منتبه إلى ما تقوله الأغنية بلهجتها الصعبة: لو لم أكن حسبتك لي، لَمَا حُكِمَ علي بالبقاء في سجنك. حين تفهم الكلمات ستتأثر ولا تعرف لماذا. وحين تلاحظ أن زجاجة النبيذ فرغت سوف تبحث عن البارمان الأخرس بعينيك. لن تجد له أثراً.

Recent Posts

See All

عروبة

Comments


bottom of page