top of page
Search
  • Writer's pictureYoussef Rakha

ثلاث قصائد لأوشان فونغ ترجمة يوسف رخا

Updated: Sep 21, 2023


Tran Trong Vu, The Little Man, 2020



هايبون المهاجر

.

.

الطريق التي تقودني إليك آمنة

حتى وإن صَبّت في المحيطات

– إدمون جابيس

.

.

ثُم، وكأنّه يتنفس، انتفخ البحر من تحتنا. إذا كان ولابد أن تَعرف أي شيء، اعرف أنّ أصعب مُهمة هي أن ​تعيش مرة واحدة. أنّ امرأةً على سفينة غارقة تُصبح قارب نجاة – مهما كان جِلْدها ناعماً. بينما أنا نائم، أَحرَق كمنجته الأخيرة لتبقى قدماي دافئتين. رقد إلى جانبي ووضع كلمة على قفاي، ذابت فإذا هي قطرة ويسكي. صَدَأٌ ذهبيٌ بامتداد ظهري. لنا شهور مُبحِرون. الملح في عِباراتنا. مبحرون ولا أثر لحافة العالم.

*

حين تركناها، كانت المدينة لا تزال تُدخِّن. وخلاف ذلك صباح ربيعي خالص. شَهَقَتْ سُنْبُلات بيض وسط حشيش السِفارة. كانت السماء زرقاء بلون سبتمبر والحمام يَلقط فُتات خُبز المَخبَز المقصوف. باكيتات مُكَسّرة. كرواسون معصور. سيارات خارجةٌ أحشاؤها. لُعبة الأحصنة الدوارة وقد تفحّم خيلها. قال إنّ ظِلّ الصواريخ وهو يَكبَر على الرصيف كأنّه الله يلعب بيانو في الهواء من فوقنا. قال: كم أحتاج أن أحكي لك.

*

نجوم. أو لعلّها مصارفُ للسماء تَنتظر. ثقوب صغيرة. قرون صغيرة تنفتح فقط بما يكفي لنَنسَلّ عَبرَها. سَاطور تُرِك على سَطح المَركِب ليَجِف. ظَهري إليه. قدماي في الدوّامات. ينحني جواري ونَفَسَه أحوال جويّة ضلّت طريقها. أدعه يَسكب حفنة من ماء البحر في شَعري ثم يَعصِره لتخرج «أصغر لالئ – لكِ وحدكِ» فأفتح عيني. وجهه بين كَفّي مُبتلٌّ كجُرح. «إذا تمكنّا من بلوغ الشاطئ» – هكذا يقول – «سأُسمّي ابننا على اسم هذه المياه. سأتعلّم كيف أُحب وَحشاً». يبتسم. حيث يجب أن تكون شفتاه شَرْطة واصِلة بين كلمتين. ثمّة نوارس فوقَنا. ثمة أيادي ترفّ بين الكواكب، تحاول أن تَصمُد.

*

ينقشع الضباب فنرى. غاب الأفق فجأة. لمعة زبرجدية تؤدّي إلى مُنخَفَض حادّ. إنها صافية ورحيمة كما أرادها بالضبط. كما في الحواديت بالضبط. الحدوتة التي ينغلق فيها الكتاب ويتحوّل إلى ضحكات في حِجْرنا. أَشُدّ الصاري لأَنشُر الشِراع عن آخره. يُلقي باسمي في الهواء. أشاهد المقاطع الصوتيّة تتفتّت إلى حصاة على سطح المركب.

*

صرخة هائلة. البحر يَنشقّ فوق صَدْر المركب. ينفتح وهو يُشاهده مثل لِصّ يُحدّق في مُحتوى قلبه: كل تلك العِظام والأخشاب المُتَشَقِّقَة. تعلو الأمواج على الجانبين. المركب محشور في حيطان سائلة. «انظري» – يقول – «أراه الآن»! يتقافز إلى أعلى وأسفل. يقبّل ظَهر رُسغي وهو يَقبض على الدفّة. يضحك لكن عينيه تكشفانه. يضحك مع أنه يعلم أنه أفسد كل ما هو جميلا فقط ليُثبت أن الجَمال لا يقوى على تغييره. لكنْ ما هي الصدمة الأكبر؟ أنّ هناك سِدَادَةً حيث يجب أن يكون الغروب. كانت دائماً هناك. هناك سفينة مصنوعة من أعواد الخِلّة والغِراء. هناك سفينة داخل زجاجة نبيذ على الرَفّ وسط حفل عيد الميلاد، والبيض بالحليب يندلق من الأكواب البلاستك الحمراء. لكننا نواصل إبحارنا على كل حال. عريس وعروس كما على رأس كعكة العُرس محشوران في زجاج. الجميع يَصيحون ويُغنّون وهو لا يعرف إن كانت الأُغنية لأجْله – أم لأجل حُجُرات مشتعلة بالحريق حَسِبها طفولته. الجميع يرقصون بينما رجل وامرأة متناهيا الصِغَر محبوسان داخل زجاجة خضراء، يفكّران أن شخصاً ما ينتظرهما في نهاية حياتهما ليقول لهما «أنتما! ما كان عليكما أن تبتعدا كل هذه المسافة. لماذا ابتعدتما كل هذه المسافة»؟ كما يقرع العالم مضرب «بيسبول» بالضبط.

*

إذا كان ولابد أن تَعرف أي شيء، اعرف أنك وُلدت لأنّ لا أحد كان آتياً. تأرجحتْ السفينة وأنتَ تَنتفخ داخلي: صدى الحُبّ متجمّداً على هيئة صَبيّ. أحياناً أُحس أنني حَرْف عَطف كهذا & وأصحو مترقّبة ضربةً تسحقني. لعل الجسد هو السؤال الوحيد الذي لا يمكن أن تطفئه إجابة. كم قُبلةً سَحَقْناها على شِفاهنا ونحن نصلي – ولم نحظَ إلا بلملمة الأشلاء؟ إذا كان ولابد أن تعرف، فأفضل طريقة لتفهم رجلاً هي أن تفهمه بأسنانك. مرّة ابتلعتُ المطر عبر عاصفة رعدية خضراء بكاملها. الساعات مستلقية على ظهري، وبُنُوتي على مصرعيها. الحشيش من تحتي في كل مكان. كم كان حلواً ذلك المطر. شيء يعيش ليسقط لا يمكن إلا أن يكون حلواً. المياه وقد بُريت حتى صارت قَصداً، والقصد حتى صار غذاء. يُمكن للجميع أن ينسونا – طالما تتذكّر أنتَ.

*

صيفً دماغيّ.

يَفتح الله عينه الأخرى:

قَمَران في البُحيرة.

.

.

.

ذات يوم سأُحِب أوشان فونغ

.

.

عن فرانك أوهارا، عن روجر ريفز

.

لا تَخَفْ يا أوشان. نهايةُ الطريق بعيدة لدرجةِ أننا تخطّيناها سَلَفاً. لا تقلق. أبوك هو أبوك فقط حتى ينسى أحدكما. كالعمود الفَقْري لا يتذكّر جَنَاحَيه مهما قَبّلَتْ رُكَبُنا الرصيف. أوشان، هل تسمعُني؟ أجمَل جزء في جسدك هو ذلك الذي يكسوه ظِلّ أمكَ. ها هو البيت مع طفولتك المَبْريّة إلى قطعة حَمراء من سِلك تتعثّر فيه القَدَم إذا خَطَتْ. لا تقلق. فقط سَمِّه «الأفق» ولن تَبلُغَه أبداً. ها هو نهارك. اقفزْ. أَحلِف لكَ أنه ليس قارِب نجاة. ها هو الرَجُل بذراعين تتسعان لرحيلك. وها، قُبَيل انطفاء الأضواء، لحظةَ تَلمح مِشعلاً بين ساقيه. هاكَ تهتدي به مرة بعد مرة لتَعثُر على يديك. طَلَبتَ فرصة ثانية وأُعطِيتَ فَمَاً تُفرِغ فيه ما عندك. لا تخف، ليس إطلاق النار سوى جَلَبة ناسٍ تحاول أن تعيش أطول قليلاً. أوشان. قُم يا أوشان. أجمل جزء في جسدك هو ذلك الذي يتّجه جسدك إليه. وتذكّر، الوَحدة أيضاً وقتٌ تُمضِيه مع العالم. ها هي الغرفة المملوءة بالجميع. أصدقاؤك الموتى يمرون خلالَك مثل الريح خلال أجراس الزينة. ها هو مَكْتَب برِجْلٍ عَرجاء وطوبة تُبقيه صالِحاً. نعم، ها هي غرفة دافئة وقريبة إلى الدم، أحلف لك – ستصحو وتظن حيطانها بَشَرَة.

.

.

.

فاتنون لوَهْلَة على هذه الأرض

.

.

ي

قل لي إنه لأجْل الجوع

لا أقلّ. لأنّ الجوع هو أنْ نُعطي

الجَسَد ما يَعلَم

أنه لا يستطيع أن يُبقيَه. هذا الضوء الكهرماني

الذي شَحَذتْه حَربٌ أخرى

هو كل ما يَشبِك يدي

إلى صدركَ.

ي

يا مَن تَغرق

بين ذراعي –

ابق

يا من تدفع بجسدك

إلى النهر

لينتهي بك الأمر

صحبةَ نفْسكَ –

ابق.

ي

سأُخبرك كيف أننا مُخطِئون بما يَكفي ليُغفَر لنا. وذات ليلة، بعد أن صَفَع أمي

بظَهر يَده

ثم أَعمَلَ منشاراً كهربائياً في طاولة المطبخ،

كيف ركع أبي في الحمام حتى سمعنا بكاءه المكتوم عبر الحيطان.

هكذا تعلّمتُ أن الرَجُل لحظة الذُروة هو أقرب شيء إلى الاستسلام.

ي

قل: استسلام. قل: ألباستر. نَصْل بِزِرّ.

عَسَلَة. عصا ذهب. قل: خريف.

قل خريف رغم الأخضر

في عينيك. جمال رغم

ضوء النهار. قل إنك لِتَقتُل لأجله. فَجْرٌ لا يُكسَر

يتصاعد في حلقك.

وأنا أتخبّط تحتك

مثل عصفور صَعَقَه السقوط.

ي

الغَسَق: نَصل من العسل بين ظِلَّينا، يسيل.

ي

أردتُ أن أختفي ففتحت باب سيارة شخص غريب. كان مُطلّقاً. كان حياً لا يزال. كان يُنهنه في يديه (يدان طعمهما كالصدأ). «فيونكة» سرطان الثدي الزَهْريّة على سلسلة مفاتيحه تتمايل في «الكونتاكت». أَلَا نتلامس فقط لنُثبت أننا مازلنا هنا؟ ذات مرة كنتُ هنا. والقمر البعيد الوامض نَصَب لنفْسه شَرَكاً في قطرات العرق على رقبتي. تركتُ الضباب ينكبّ عبر الشباك المشروخ ويُغطّي أنيابي. حين غادرتُ بَقيتْ «البويك» جالسة في مكانها، ثوراً أصم في المرعى، وعيناها تحرقان ظِلّي على جانب منازل الضواحي. في البيت، رميت نفسي على السرير مثل شُعلة وشاهدتُ الوهج يَقضم منزل أمي حتى ظهرت السماء مُحتقِنةً بالدم وهائلة. وكم أردتُ أن أكون تلك السماء – أن أُمسك كلّ طيران وكل سقوط في نفس اللحظة.

ي

قل آمين. قل «أميند» (أي يُصلِح).

قل نعم. قل نعم

على كل حال.

ي

في «الشاور»، متعرّقاً تحت الماء البارد، حَككتُ وحَككتُ.

ي

في حياة سبقتْ هذه الحياة، كان يمكن تمييز

ما إذا كان اثنان يُحبان بعضهما

لأنهما ما إن يقودا شاحنتهما الصغيرة

فوق حز الجسر حتى تعود أجنحتهما

إلى النمو، في اللحظة الحاسمة.

أياماً أكون داخل الشاحنة لا أزال.

أياماً أواصل الانتظار.

ي

لم يفُتْ الأوان. حَوْل رأسينا هالتان

من البَعوض والصيف أَبْكَر

من أن يَترك علامات.

يدكَ تحت قميصي بينما تزداد

كثافة التَشوّش في الراديو.

ويدك الأخرى تُوجِّه

مسدّس أبيك

إلى السماء. تَسقط النجوم واحدةً

تلو أخرى في دائرة النيشان.

هذا يعني أنني لن أكون

خائفاً طالما أننا هنا

فعلاً. طالما أننا فعلاً أكثر مما

يحويه الجلد. أنّ جسداً

جنب جسد

لابد وأن يصنعا حَقْلاً

مَليئاً بالتَكّات. أنّ اسمك

هو فقط صوت ساعات

تُضبَط متأخّرةً ساعة –

يجد الصباح

ملابسنا في مدخل بيت أمك، مطروحة

كزنابق عُمرها أسبوع.

.

.

.

ولد أوشان فونغ في مدينة هو تشي منه في جنوب فيتنام سنة ١٩٨٨، وانتقل مع أمه وهو في الثانية من عمره من مخيم لاجئين في الفلبين إلى ولاية كونيكتيكات في أمريكا، حيث مَنَحتْه الأم اسم «أوشان» (أو «محيط») وهي بصدد تعلّم اللغة الإنجليزية. تخرج ببكالريوس في أدب القرن التاسع عشر الإنجليزي من «بروكلين كوليدج» في نيو يورك ونَشَر قصائده في مطبوعات مرموقة مثل «بويتري ماكازين» و«النيو يوركر» و«النيو يورك تايمز»، كما فاز بمِنَح وجوائز متعدّدة بينها جائزي تي إس إليوت وفوروارد عام ٢٠١٧ وجائزة وايتنغ عام ٢٠١٦ وجائزة بوشكارت عام ٢٠١٤. أصدر أوشان فونغ أولى مجموعاته الكاملة تحت عنوان «سماء ليلية مع جروح نافذة» عام ٢٠١٦.


«الهايبون» هو شكل أدبي ياباني تبناه شعراء عدة في أمريكا كما تبنوا الهايكو أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهو يقوم على مزج مقاطع نثرية مع قصائد الهايكو وعادة ما يعالج رحلة قام بها الشاعر.


«على الأرض فاتنون لوهلة» أيضًا عنوان رواية فونغ الأولى الصادرة سنة ٢٠١٩، نفس سنة ترجمة هذه القصائد التي أراها ضمن أفضل قصائده.

Commenti


bottom of page