top of page
Search
  • Writer's pictureYoussef Rakha

نجوى العتيبى تكتب عن «ولكن قلبي ٢» في أخبار الأدب



يمثل كتاب «ولكن قلبي، ما بعد المتنبى»، الصادر عن دار أثر عام ٢٠٢٢م استمرارا للنهج المختلط الذى بدأه الكاتب يوسف رخا عام ٢٠٢٠م فى كتاب (ولكن قلبى، متنبى الألفية الثالثة) . ذلك النهج الذى استلهم المتنبى طقسا كتابيا، يعيد فيه النظر إلى العالم بما فيه، من دون أن ينسى ذاته وكتابتها، والارتداد إليها فى كثير من المواضع كما سيجىء.ولعلَّ السنوات الثلاث الأخيرة تشكِّل للكاتب ذروة التجريب، من خلال التقاء أنواع من التأليف فى هذين الكتابين؛ حيث جمعا المقالة والشعر والسيرة الذاتية فضلا عن الرسومات المتعددة.


المتنبى سيّد الطريق يظهر المتنبى فى رحلة يوسف رخا بدءا من العنوان، ما بين النصِّ على اسمه صراحةً، والاقتباس عنه فى عبارة (ولكنَّ قلبى) من بيته الشهير:وبى ما يذود الشعر عنى أقَلُّهُ ولكنَّ قلبى يا ابنةَ القومِ قُلَّبُ.

ومن بديع الاستهلال والاتفاق بين العنوان والموضوع والشكل المختار للكتابة؛ مجيء اختلاط الجنس الأدبى فى الاقتباس الأصلى عن المتنبى وإن لم يحضر فى العنوان صراحةً، وذلك فى قوله (قُلَّبُ) فهو يعطى القلب صفة التفكُّر وتقليب الأمور خارج الشعر، مما يتناسب مع الشكل الذى ارتآه الكاتب لكتابه.

وإضافة إلى العنوان؛ يطلُّ المتنبى بوصفه محطة توقُّفٍ أساسية بين موضوعات الكتاب من خلال رسم الخيل؛ إذ تحيل الخيل أيضا على المتنبى فخرا وشعرا وحربا ورمزا للرياسة المبتغاة، وإن كان مسار الرحلة يختلف عند الكاتب بوصف الكتابة نفسها حياةً وطريقا لا غيرها من الأمور والأهداف.

ولكنَّ ذلك لا يمنعه من استلهام المتنبى إعجابا به وبمركزيته فى الثقافة العربية كما يشير إلى ذلك فى كثير من المواضع، ولالتقاء الكاتب بالعالَم وبنفسه فى شعر المتنبى كما أوضح فى الكتاب السابق، وهو هنا فى هذا الكتاب يكمل الطريق استرشادا بالمتنبي، وهكذا ينسكب المتنبى داخل الكتاب فيما يلتفت إليه من مواضيع متعددة.


الشعر والكتابة يبدأ الكتاب بقصيدة وينتهى بأخرى، وتتخلل مقالاته عدة قصائد، كما يفتتح أول مقالة بالكتابة ومحلها من نفسه، ومن أين تبدأ وكيف تبدأ. وبالنسبة للكاتب فإن الأمر دائما منوط بالألم الذى يحاول تفسير وجوهه للقارئ بتصاعدٍ يصل إلى الاعترافات الشخصية.

ومع العودة إلى الحديث عن المتنبي، إلا أن هذا الكتاب يتضمن ذكر عدد من الشعراء، كأبى نواس وجرير والفرزدق وسعدى يوسف، وشعراء عالميين مثل: لى باى الذى وصفه بالمتنبى الصيني. يحاول الكاتب من خلال الشعر فهم نفسه والعالم مهما تعدَّدت مصادره وأزمنته، يقول مثلا عن أبى نواس: «فكما منحنى المتنبى أدوات للتعامل مع جوانب ضاغطة من الواقع، كان أبو نواس يمنحنى أدوات لاستيعاب الجندرية المعاصرة بصيغة عربية وعفوية بعيدة عن ما يزعجنى فى الخطاب الجندرى» ص٢٣.

ولا تغيب عنه المقارنات- التى يخرج بها من خلال ثقافته واطلاعه- بين شاعر وآخر ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين، كوصوله إلى متنبى الصين عبر ملاحظةِ عبقريةِ الاثنين ومركزيتهما فى ثقافتيهما، وتوقِ كل منهما إلى دور سياسى رائد.

مع إمكانية تتبع حياتيهما من خلال شعرهما، فكما فعل بلاشير من تتبع المتنبى تاريخيا وترتيب ديوانه زمنيا بناء على ما وصل إليه؛ تكرَّرت التجربة كذلك مع الروائى الصينى الأمريكى ها جين فى اهتمامه بلى باى.

وتكبر علاقة الكاتب الحساسة بالشعر إلى حدِّ الأبوة، من خلال اعتبار الشاعر سعدى يوسف مثلا أبًا له لأنه من جيل أبيه المتوفَّى؛ فيستحضر الكاتب من خلال سيرة سعدى حياة أبيه، ويكملها متخيَّلةً بناء على مواقف سعدى وآرائه حول الملفات السياسية الكثيرة التى انشغل بها الكاتب.

وحتى يرى شبها حقيقيا بينهما يستطيع من خلاله تبريرَ وصف العلاقة بالأبوّة، فضلا عن مصادفةٍ ظلت تبكيه؛ إذ مات سعدى يوسف فى اليوم الذى ظهر فيه المقال عن أبيه؛ حيث لم يكتب عن أبيه قبل ذلك قط، وكان ذلك قبل عيد ميلاده بيوم واحد فقط.


شيء من السيرة الذاتية يستمر الكاتب فى الكتابة بشكل سيرى عن مواضيع روتينية يتخذ منها مادةً تأمليَّة؛ فيعود للكتابة عن السباحة وعلاقته الجنينية بها، ويكبر الدور التأملى الذى يمارسه مع السباحة لتكون له فلسفته الخاصة بها؛ فهى: «الموت كما أريده وأبحث عنه، الذى لم يكن خطر لى أن هناك طُرقا صحية لممارسته» ص٤٣.

وبقدر ما يغيب الأب فى كتابات يوسف رخا إلا أنه فى الكتاب يؤكد على حضوره حتى فى الغياب، ويستدل بذلك من خلال مواقف وأحداث كتبها فى أعماله الروائية، أو من خلال مفاجأة القارئ فى تفسير الموقف المرتبك من الأب وأسبابه النفسية؛ إذ كانت الصدمة التى عانى منها طويلا بفقْده، مع مكاشفات واعترافات أخرى تمسُّ عملية الكتابة نفسها، العملية التى ظلّت متمنِّعة عن اتخاذ الأب موضوعا لها بارتباك شديد.

وتأتى المقالات: (أبى نص لا يُكتب، كل آبائنا الحالمين، أبناء الشخصيات، مان تو مان) كاشفة عن القلق الوجودى الذى يعايشه الكاتب فى الكتابة ويتخلّص منه بالكتابة أيضا، فهو كما يقول: «لا أريد أن أمشى فى جنازة قتيلي.

ولا أن أزور فجيعتى فى موته، لكن لعل السبب الأقوى فى أننى أتذكر أبى ولا أكتب عنه هو أمر ثالث أبسط وأعقد فى الوقت نفسه: أنه يغيب فى الكتابة». فى الوقت الذى يكون الأب فيه حاضرا ويبثّ الألم فى كتابات سارتر وكامو وفانون؛ لأنهما قرآها دون اتفاق.

ولأنه حين يفكر فى محتوى تلك الكتاباتك فإنه كان يشعر أنه برفقة أبيه فى المشاوير التى لم يمشياها معا أبدا؛ لقعود الأب بلا حراك جرَّاء الاكتئاب والتعب النفسى والجسدى.

تتقدم الاعترافات المتداخلة بين الشعر والكتابة والأب والموت حتى يعبّر الكاتب عن قلقه الأبوى تجاه ابنه الوحيد؛ مما يُفهم القارئ عن دور الثنائيات المتعلقة بالموضوع من خلال وجود الأب وغيابه، وحياته وموته، ودوره فى الحياة والعبء الذى تسبب به؛ فتعود الأسئلة إلى الحياة.

وتظهر لتُكتب مجددا بسبب وجود سلالة يخشى توريثها شيئا من المرض، وهنا تتجلى ذروة الاكتشاف، ويتضح سبب ظهور الأب فى الكتابة، ولاسيما حين تجدَّدت صدمته التى عايشها بفقْد أبيه على لسان ابنه الصغير كمشهد متخيل لما سيحدث إن مات الكاتب.


أعمال مميزة ولا يفوت الكاتب التحدث عن أعمال مبهرة فى مجال التصوير والرواية، المجالين اللذين يحتلَّان جزءا من اهتمامه ومتابعته وممارسته؛ ففى مجال التصويـر يكتب عن عبقريـة المصورة ديان آربس، يستدعى سيرتها الذاتية ويمارس شيئا من التحليل النفسى عليها.

ويستغرق فى وصف حياتها الزوجية والجنسية وعلاقاتها الأسرية من دون أن ينسى النقطة المهمة المتعلقة بالأمومة، وملابسات كل تلك العلاقات عبر الزمن، والفوضى التى مرَّت بها حتى انتحرت، وهى مقالة تمثِّل أغلب المواضيع التى تطرَّق إليها فى الكتاب.

وفى نموذجٍ لعبقريةٍ روائيةٍ فى مكان آخر؛ يتحدث عن فوز الكاتبة آنا بيرنز بعملها (ميلكمان) مناقشا أسباب الفوز، فيحلل ما يتعلق منها بالعمل الفائز، أو اعتبارات الفوز، أو ردود الفعل المعترضة وسبب ذلك، مؤكدا على أهمية فوز هذا العمل بقوله: «يُعدُّ انتصارا للكتابة على ثقافة معادية للأدب تتمدد كل يوم» ص٧٤.

وقبل أن يختم الكتاب بقصيدة؛ يكتب عن بعض الظروف التى كتب فيها أعماله الروائية، مبرزا أهم الموضوعات التى تتحدث عنها، ويقول فى الختام: «أصبحت التماسيح ثلاثية وتحوَّلَ مشروعى الأدبى عن القاهرة كخريطة للهوية إلى شىء آخر. فى (التماسيح) كتبت عن العشق وفى (باولو) عن العنف، وهناك رواية ثالثة سأكتب فيها عن الموت أو ما بعده. وسأقبل ما تجود به الدنيا أيا كان. أليس هذا أفضل من المرارة؟» ص ١٠٩.

وبهذا يكون موضوع الموت فى الأخير جامعا لأهمِّ ما كتبه فى هذا الكتاب، ما بين شعرائه الموتى الذين ما زالوا يؤثرون فيه، والسباحة مكانا لالتقاء الموت ومن أخذهم، وانتحار ديان آربس وحياتها الفوضوية.

ومجتمع القمع والقتل والتهديد بالموت الذى اكتنف رواية ملكمن، والأب الميت الذى لم يغب عنه إلا فى عملية الكتابة، هكذا كان التأليف المختلط الذين يجمع بين الأجناس الأدبية ساحةً لالتقاء الكاتب بذاته مجددا؛ ليكتُب ثم يكتب عمَّا يعانيه قلبُه.

Recent Posts

See All
bottom of page