top of page
Search
  • Writer's pictureYoussef Rakha

الكدبة، أو يا أخي ملعون أبو دي حضارة


سينا

حصل موقفين تقريبًا بالتزامن مع أحداث فلسطين، وسبقهم وفاة خالد خليفة: قارئة سعودية غردت إنها زعلانة مني لإني بقيت «غريب» وبأخاطب الغُرب على حساب إخوة لساني، وصديق مصري قال لي إن مشروع مقالاتي عن الهوية الإسلامية مفروض يكون بالعربي. وهما طبعًا قصدهم العربي الفصيح لكن أنا أكتر فأكتر بقيت حاسس إني لازم أكتب زي ما بأتكلم.

أنا كانت فكرتي إني أكتب عن إحساسي باللي حاصل في فلسطين بالإنجليزي برضه عشان أبقى بأخاطب عدد أكبر من الناس اللي في أماكن ممكن ما يسمعوش فيها صوت زي صوتي، ولإن مخاطبة الوسط الثقافي الأنجلوفوني هي الحاجة اللي أنا متخيل إني بأعملها في المرحلة دي من مساري ككاتب. لكن الحقيقة كمان إني قرفان تمامًا من الناس الناطقين بالإنجليزية اللي في حياتي.

مش قصدي إن كلهم موافقين على الإجرام الخرافي اللي بيحصل في غزة، لكن كلهم عايشين في مجال سامح بالإجرام ده، وحتى لو مش قابلينه فهما قابلين حياة مش بس ما فيهاش أي حاجة ما هياش سلعة ولا أي كلمة ما هياش إعلان ولا أي هوية ما هياش مسخ للشيء اللي بتوصفه لكن كمان ما فيهاش إدراك لإن التفوق المادي مش معناه تفوق معنوي أو أخلاقي، خصوصًا لما يكون مبني كله على العنصرية والدموية والنصب والاحتيال.

ما عدتش فاهم ليه مطلوب مننا نحترم مجتمعات بتعرّف نفسها بإن فيها حرية ومساواة وتعدد وهي تحت مسميات تانية بتمارس قمع ورقابة وتفرقة وبتحبس أقلياتها في جيتوهات يمكن أكتر من المجتمعات «الاستبدادية» اللي إحنا عايشين فيها.

ودي حاجة مهمة لإني لما بأراجع تاريخي بأشوف قد إيه سعيت إن يكون لنصوصي «مكان تحت الشمس» في الغرب سواء كصحفي أو كأديب، سواء من خلال الترجمة أو بإني أكتب بالإنجليزي، وسواء في مطبوعات محلية أو (زي ما هو حاصل من ٢٠١٥ تقريبًا) عن طريق طرح نفسي في الوسط الأدبي الأنجلوفوني على أمل الوصول لمطبوعات متشافة و«محترمة». ومع إني متحقق وواثق من نفسي طول الوقت كنت بأبقى حاسس إن الجزء الأكبر من شغلي ككاتب هو إني أتبهدل بشكل ممنهج في انتظار صدفة أو واسطة أو معجزة... مين عايز ده؟

وسواء وأنا هنا وبأراسل محررين أو لما رحت اشتغلت وسط أمريكان وإنجليز في جريدة في أبو ظبي، أو حتى بعد ما بقى ليا كتب في أمريكا وبأتعامل من خلال وكلاء، الحقيقة إني كل مرة طرحت نفسي كصوت مختلف كنت بأواجه حواجز أمنية وكماين تفتيش إن ما كانش جدار عزل على شكل تجاهل تام. ودلوقتي ما عنديش شك إن ده بيحصل لإني عربي ومسلم مش لسبب تاني. كوني عربي ومسلم مخلي عندي كتابة وطريقة لإنتاج الكتابة مش ماشية مع أوهام التنافسية والموضوعية والشفافية اللي شغالة هناك، واللي هي كفيلة تفسد أي كتابة الحقيقة.

الفكرة إنه من ساعة ما بدأت أحداث فلسطين وأنا حاسس باستغناء غير مسبوق عن أي اهتمام أو اعتراف يجي من الغرب. يمكن حتى الإحساس رايح أبعد من كده: إنك تكون معروف أو محتفى بيك هناك دي حاجة تِكسِف وتشكّك في مصداقيتك كشخص من البلاد دي أصلًا.

طبعًا بما إن الوضع المحلي والإقليمي مؤلم لأسباب مختلفة - يكفي الرقابة الدينية - فالموضوع معقد. يعني إنت ما حبيتش تنشر هناك إلا بعد ما حسيت بيأس وخذلان هنا، وكمان محيطك هنا بيحكم عليك من منظور طول الوقت بيفترض إن هناك أحسن. ومع ذلك ما بقاش فيه شك إن وجودك وسط ناس نافيين عنك مش الندية لكن صفة الإنسانية نفسها هو حاجة أسوأ كتير من إنك تكون في مكانك حتى وإنت حاسس بالغبن والخطر أو مش شايف أفق حقيقي لشغل أو تعاون يرضيك. بس إيه فايدة إنك تروح للخواجات إذا كانوا كل مرة بيزقوك بعيد بمجرد ما ينتبهوا إن عندك رؤية أو نظرة للعالم أو حتى طريقة كتابة مختلفة عن اللي هما متوقعينه من حد هربان من أهوال الهمجية والتخلف عشان يناشد فيهم إنسانيتهم العصماء.

وجودك وسط الخواجات حاجة أسوأ مش بس لإنهم نافيين عنك صفة الإنسانية بالطريقة دي، لكن كمان وده الأهم لإنهم معيشينك في كدبة إن ده مش حاصل. الكدبة دي بتنكشف طول الوقت - أبسط مثال طريقة ما بيعاملوك لما تيجي تاخد فيزا - لكن إنت نفسك بتتناساها وتغلوش عليها بتواطؤ تام معاهم على روحك، مش لإنك بتكره نفسك لكن لإن كل حاجة في العالم متصممة على مقاسهم بطريقة تخليك عشان تبقى موجود في العالم أصلًا مضطر تتعامل بافتراض إنك واحد منهم أو زيهم. لكن مجرد ما بتفتكر حاجات معينة بتحس قد إيه هي كدبة.

هما مثلًا أهم مبدأ أخلاقي عندهم قداسة الحياة الإنسانية، لكنهم جاهزين يقتلوك بمنتهى الأريحية في أي لحظة تحت دعوى إنهم جايين ينقذوا الإنسانية كمان، يعني ينقذولك إنسانيتك منك فيقتلوك عادي. أو على أحسن الفروض يعني يستعبدوك وهما مفهمينك إنهم حيخلوك زيهم. لكن إذا كان ده أهم مبدأ وهما بيقتلوك فيبقى أنت حياتك مش إنسانية. دي الكدبة.

اللي حاصل في غزة دلوقتي واجعني ومسببلي غضب وفجيعة لكن كمان محسسني بحرية ومفرحني بمعنى ما. غير إنه الهجمة نفسها فرّحتني، أقصد (ومع احترامي لـ«المتحضرين» اللي ضد «الإرهاب» وقتل المدنيين وكده، لا المستوطنين مدنيين ولا المقاومة إرهاب ولا مفترض إن كل الذل والجبروت ده ما يكونش عليه رد فعل)، بس حتى الدمار والافترا اللي حاصل في غزة مفرحني لإنه محررني من الكدبة اللي كابسة على نفسي ليل نهار، الكدبة اللي طول الوقت طلعان ديني عشان أقنع نفسي بيها: إن النظام المهيمن على العالم من يوم ما اتولدت لغاية ما أموت ممكن يشوفني إنسان مكتمل الإنسانية ويعاملني زي ما بيعامل البني آدمين.

هو يمكن مش من حقي أقول كده وأنا في أمان ومش عامل تضحيات من أي نوع. وأكيد إحساسي شيء صغير وتافه وسهل تجاهله في وسط اللي حاصل، لكن هو كمان جزء من اللي حاصل وممكن يضيف لمعناه.

الواقع إنه من أفضال فلسطين عليا إني قدرت أتلم على روحي في مواجهة كل السلطة المادية والمعنوية بتاعت المجال الثقافي الأنجلوفوني وأقول (لنفسي على الأقل) إن المحررين دول شوية معرصين ما يشرفنيش إنهم يقبلوني وسطهم. وإني لو مش عارف أشتغل معاهم فده لإن شغلي بيعبّر عن هويتي وعيشتي اللي هي مختلفة حقيقي عن عشيتهم، واللي مخلياني شايفهم من غير ما هما يشوفوني، وممكن حتى معتبرهم بني آدمين.

الخلاصة إني بقيت حاسس إن الغرب المهيمن مش مستعد يعمل لي مكان إلا لو بقيت نسخة ممسوخة منه وقلت المنصوص على إنه يسمعه. في الحالة الراهنة مثلًا: إن حماس أشرار واليهود ضحية. أنا طبعًا ما بأطيقش حماس بغض النظر، وما عنديش أي مشكلة مع اليهود، لكن مش حأداري فرحتي بأي انتصار للمقاومة على الحاصل في فلسطين. والحقيقة إنه ما بقاش عندي شك إن لو هويتي أو عيشتي دي وقفت في طريق «العالم الحر» زي ما هو حاصل مع هوية وعيشة الفلسطيني فأنا كمان حأبقى بأتقتل عادي جدًا من غير ما «المجتمع الدولي» يشك لحظة في تفوقه الأخلاقي عليا.

المذهل بالنسبالي إن المنظومة كلها تتضرب بالنار في يومين، فيبقى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي حقوق مشروعة قادة الأمم بيدافعوا عنها علنًا في الميكروفونات، ويبقى فيه كذب صريح في الصحافة وحجب معلومات ممنهج ومصادرة على اللي يتكلم في التواصل الاجتماعي، وتزيد وتيرة اضطهاد العرب والمسلمين والتحريض عليهم في بلاد هما فيها أقليّات. ولا كإن أمريكا وأوروبا بقوا كوريا الشمالية وهي بتتعامل مع اختراقات أمنية من الجنوب.

وكل ده مع تسليح خرافي لجيش نووي على حد وصفه هو بيواجه إرهاب «حيوانات بشرية» من جوة أراضي هو مسيطر عليها بالكامل؟

مش حأدعي إن ما عنديش طموح، ولا إن إعجاب الخواجة اللي عندنا منه عقدة (مهما كان وسخ وريحته وحشة يعني) هو حاجة مغرية في كل الحالات. لكن أنا قضيت فترة طويلة من عمري على استعداد إني أصدق إن أزمتنا مع إسرائيل إحنا أو يعني موروثنا القومي جزء كبير من السبب فيها، وإنه «الكيان» زي ما بيسمّوه ممكن فعلًا يتحول لدولة علمانية تحتوي كل سكانها وتسمح لكل اللي اتهجّروا منها قسرًا بالعودة لو إحنا بس قررنا نتصالح معاه.

لكن سواء في الكيان أو براه واضح إن المجال المدني اللي ما فيش حد فيه أحسن من التاني نتيجة صدفة مولده ده بقى أسطورة فعلًا. وتفاؤلي ده كان واحد من آراء ليبرالية كتير اكتشفت بعد ٢٠١١ إنها سذاجة وهبل. أنا دلوقتي ما عنديش شك إن على قد ما عندنا مشاكل من النوع اللي بيتكلم عنه الله يرحمه خالد في «مديح الكراهية»، فالكيان ده مشروع استعماري مشروط بإننا ما يكونلناش وجود إلا بصفة جثث احتياط، وإننا نموت فعلًا حفاظًا على التوازن الديموغرافي.

مهما سمحت الرفاهية اللي هناك بكلام علماني أو حضاري أو ممارسات شبه الحرية فالدولة مرهونة بطبيعتها العرقية-الحربية اللي مخلياها عنصرية ودموية واستعمارية. أنا بقيت شايف الاستعمار في تفاصيل ما لهاش حصر جوة حياتي. لكن يمكن الأهم إني بقيت شايف قابليتنا إحنا على إننا نكون مُستَعمرين تحت مسمى التحضر. مش بأقول إني ناوي أبطل كتابة بالإنجليزي لكن بغض النظر عن تفاهة قرار زي كده أنا من هنا ورايح حأكون نفسي أكتر وحأعبر عن رؤيتي بتنازلات أقل. ومش حأسعى للتعامل مع حد ما هواش متحمس للتعامل معايا.

Recent Posts

See All
bottom of page